القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية عتاب : الفصل الأول

 

رواية عتاب للكاتبة سمية إيزيل كوش (كاتبة زهرة الثالوث) مترجمة الى العربية 



"لا ينسى أي ذنب كفارته.

لا يمكن لأي سر ملوث أن يُحتجز تحت عهدة الليل.

حتى وإن كان يعلم أنه سيموت، فإن الرجل الذي انتُزع مستقبله من بين يديه في ليلة واحدة، لا يلجأ إلى أجنحة الصمت.


أنا داخل قصة مؤلمة تتعرض فيها ليلتان مظلمتان لجريمة كبيرة وتتشابك فيها روحان غريبتان بعنف. واحدة من هاتين الروحين هي روحي. وكنت في وقت ما، أملك حياة تسير على ما يرام. ثم جاء ذلك الشخص وقلّب عالمي الذي كان مليئًا بالصواب بأخطائه. نظرة واحدة إلى عيني كانت كافية لأن تطيح بي، وتفقدني توازني في المكان الذي سقطت فيه. حبسني في قفص مليء بالتهديدات، وأعطاني مفتاح القفص الذي أقفله. قال: "الذهاب أو البقاء هو خيارك." لكنني لم أستطع أن أبقى أو أن أرحل. فقط انتظرت. كان لابد أن يأتي يوم أطيح به فيه، كنت أحب الانتقام.

جاء ذلك اليوم. في ليلة بينما كان القمر يلوح في أحضان الليل، ضربت الأصابع القذرة الحقيقة خلف ظهره. الآن، كان هناك آخرون في قصتنا السخيفة. مضى الزمن... وانكسر قفص سجني بشكل طبيعي. في اللحظة التي خرجتُ فيها، تعثرت مشاعري بوقاحة. لأن روح الرجل الذي نقش حبّه في قلبي في الليالي الضبابية كانت قد تسربت إلى داخلي.


"كنتِ محقة" قال وكأنه يريد قتلي.

"لم أكن أنا البطل الحقيقي في قصتك."



الفصل الأول



هذه الليلة كانت ثاني أكثر ليلة مظلمة في حياتي. هذه الليلة حتى لو خرجت روحي من جسدي، فإن ذاكرتي ستظل مكفنة بذكريات لا يمكن نسيانها أبدًا. هذه الليلة سيمر زمن طويل لا يمكنني عده منذ أن أرسلت آخر ضحكة لي إلى السماء. هذه الليلة، الطفلة التي بداخلي سوف تُدفن في حفرة مليئة بالخطايا.


18 سبتمبر، الجمعة.

الساعة 22:45


كنت أركض في الشارع الذي يتدفق فيه الناس كل مساء مثل السيل، دون أن أهتم بالنظرات الغريبة والمندهشة الموجهة نحوي. في الواقع، لم أكن أركض، بل كنت أهرب. لم أستطع عد عدد الأشخاص الذين اصطدمت بهم بينما كنت أركض بسرعة أكبر من اللازم. ربما لأنني لم أكن معتادة على مثل هذا، فقد شعرت بألم في منتصف صدري. الأنفاس العميقة التي أخذتها كانت تحرق حلقي، ونفسي كان ينقص شيئًا فشيئًا.


مع كل خطوة كنت أخطوها، كان هناك ألم يتمركز في كعبي ويزداد حدة ويصبح لا يطاق. فجأة، اختبأت خلف كشك في السوق الذي لفت نظري. بقرار مفاجئ، دخلت الكشك المفتوح الباب. بينما كان صاحب الكشك ينظر إليَّ من تحت حاجبيه المعقودين، لم أتمكن سوى من وضع إصبعي على شفتي. كانت نظراتي تتوسل للرجل العجوز. أرجوك، اسمح لي بالاختباء.


ركعت في الفجوة الصغيرة بجانب الصناديق، واحتضنت ركبتيّ، فهز الرجل رأسه بشكل طفيف. أعتقد أن ذلك كان يعني موافقته. اختبأتُ جيدًا في مكاني، واتخذت وضعية الجنين، حيث كانت رئتاي تحترقان من تأثير أنفاسي المتقطعة وكأنها على وشك الانفجار. مرت بضع دقائق فقط حتى رأيت حذاءه. كانت تلك هي الكارثة، فقد كان يتنفس أمام الكشك الذي اختبأت خلفه. لم أكن أراه، لكنني كنت أشعر به، لا بد أنه كان ينظر الآن إلى صاحب الكشك. لم يمض وقت طويل حتى سمعت صوته المألوف يتردد في أذني بصوت واضح.


"قبل قليل، مرت فتاة راكضة من هنا"، قال وهو يلهث. اللعنة، لقد رآني وأنا أتجه نحو هذا المكان. "هل رأيتها؟"

نظرات الرجل العجوز استقرت عليّ. عندما شعرت وكأنه سيخبره عن وجودي هنا، انفجر الخوف في داخلي واهتزت معدتي بالحرقة. عندما شعرت أنني على وشك التقيؤ، ضغطت بأصابعي بقوة على شفتي.


"لكنها مرت من هنا." كان صوته أكثر حدة مما كان عليه قبل قليل. "فتاة في العشرينيات، ترتدي سترة جلدية سوداء، ذات بشرة سمراء؟" وصفني بالتفصيل كما لو كان يسأل. "لا بد أنك رأيتها." رغم أن نبرة التهديد في صوته جعلتني أرتجف، قال الرجل العجوز: "لا"، رافضًا. "لم أرَ شخصًا كهذا."


على كلمات الرجل، رأيت حذاءه يبتعد ببطء. بينما كان يمشي، بدأت أرى جسده بالكامل. عينيه الغاضبتين كانتا تتجولان يمينًا ويسارًا وهو يبتعد. أزحت يدي عن شفتي وتنهدت بعمق. كان قلبي ينبض بجنون. لم يكن هناك وقت، كان عليّ المغادرة بسرعة. نهضت بهدوء من مكاني ونظرت إلى الرجل بعينين مليئتين بالامتنان.


"شكرًا لك"، قلتُ بخجل. "لقد أنقذت حياتي."


لكن الرجل لم يهتم بشكري، وأدار رأسه ليتعامل مع زبون يطلب سجائر. بينما كنت أراقب المكان مرة أخرى، كانت ركبتاي ترتجفان من الخوف الذي شعرت به قبل قليل. كنت خائفة، بعد أن قررت ترك كل شيء خلفي والهرب، كنت خائفة جدًا من الوقوع يديه مرة أخرى.


بشجاعة كبيرة، خرجت من الكشك واستدرت إلى الزقاق الضيق الذي كان أقل ازدحامًا مقارنة بالشارع المزدحم أمامي. كنت قد وضعت يدي في جيوب سترتي وأرسلت نظرات مليئة بالخوف إلى كل مكان. لم أكن أركض هذه المرة، لكن خطواتي كانت متسرعة. كان رأسي يتصبب عرقًا، وراحة يدي وظهري مبتلين بالعرق. دون أن ألتفت إلى ارتعاش ساقي، مشيت إلى نهاية الزقاق.


هذه هي أنقرة. كنت واحدة من مئات الأشخاص الذين ولدوا وترعرعوا في هذه المدينة وكرسوا سنواتهم لها. لكنني كنت مختلفة عنهم لأنني هذه الليلة سأغادر هذه المدينة دون أن أعرف متى سأعود. لن أغادر المدينة فقط، بل سأغادر تركيا أيضًا. قد يستغرق نفيي أشهرًا أو ربما سنوات... هذه الفكرة كانت تثقل كاهلي، لكن العيش حياة حرة كان يستحق كل شيء. الشيء الوحيد الذي أحزنني هو أنني لم أستطع توديع عائلتي وداعًا حزينًا.


انتقالي المذعور من شارع إلى آخر انتهى عندما وصلت إلى منطقة انطلاق الحافلات. بدون أن أنظر إلى وجهتها، قفزت إلى أول حافلة تتحرك ومررت بطاقة الحافلة عبر الجهاز. عندما جلست في المقعد الأخير في الحافلة التي كانت نصف ممتلئة، شعرت بالتوتر وكأن جميع العيون كانت موجهة نحوي. أخفيت وجهي وجسدي بعيدًا عن النافذة، ووجهتهما نحو الممر. عندما تنفست بعمق، أغلقت عيني تلقائيًا. وبينما كانت الحافلة تسير بسرعة، لم يتبقَّ في داخلي أثر للخوف. الشعور بالحرية منحني فرحة طفولية، وظهرت ابتسامة خافتة على شفتي.


بعد حوالي عشر دقائق، كنت سأغادر هذه الحافلة التي لا أعرف وجهتها. كان هدفي فقط الابتعاد عن هذه المنطقة. لم أستطع استخدام أماكن عامة مثل المحطة أو المطار. كنت أعلم أنني إذا خطوت إلى تلك الأماكن، سأكون عرضة للقبض علي. عندما أنزل، سأرسل موقعًا إلى هلال، ستأتي لتأخذني، وفي هذه الليلة سنكون قد غادرنا حدود أنقرة.


لم يكن لأحد علم بما عشته، أو بما مررت به من انهيارات ويأس. لم يعرف أحد سبب هروبي أو ممن أهرب. كنت أعيش حياة مليئة بالرياء منذ فترة طويلة. لم يكن أحد يعلم أن الحياة التي ينظر إليها الناس بإعجاب كانت بالنسبة لي حفرة. كنت أغرق، ولم يكن هناك من يرى. لم يعد لديّ القدرة على التظاهر بأنه ليس هناك المزيد من المشاكل. بما أنني لم أستطع أن أخبر أحدًا، كنت سأهرب.


في هذه الليلة، سأولد من جديد من رمادي.


بينما كانت الأفكار المجنونة تصرخ بلا رحمة داخل عقلي، كنت أحصي الدقائق التي تمر. مرت أربع دقائق فقط منذ أن صعدت إلى الحافلة. نظرت بلطف إلى النافذة، في تلك اللحظة صرخت السماء بصوت عالٍ وبدأ المطر يهطل فجأة. برضا عدم التعرض للقبض، أسندت جبهتي إلى الزجاج واستمتعت بصوت قطرات المطر التي تضرب الزجاج.


ازداد المطر سرعة، وكانت عيناي لا تزالان مغلقتين.


واصلت عد الدقائق. 5، 6، 7…


في الدقيقة الثامنة، نهضت بسرعة وضغطت على زر التوقف في الحافلة. بعد دقيقة، فتحت الأبواب الخلفية للحافلة وخرجت إلى الرصيف، غير مكترثة بالأمطار الخفيفة التي تتساقط. كنت أسير بخطوات سريعة وأخرجت هاتفي من جيب سترتي، وأبحث عن رقم هلال في قائمة الأسماء. عند الاتصال في الرنة الثانية، سمعت صوت هلال المليء بالإثارة.


"هل نجوتِ؟" سألت، وكان من الواضح أنني كنت أُجاهد لعدم البكاء في تلك اللحظة. "نعم، نجوت."


"أرسلي الموقع فوراً. أنا أفعل شيئاً لم أفعله من قبل وأقضم أظافري في السيارة منذ دقائق."


"سأرسله، أرجو أن أسرعي ."


بعد أن أغلقت الهاتف، انتظرت أمام متجر كان قد أغلق ، وحاولت أن أحتمي من المطر الذي كان يزداد شدة. بعد أن مسحت شاشة الهاتف المبللة على بنطالي الجينز، فتحت قسم الرسائل وأرسلت موقع تواجدي إلى هلال. في تلك اللحظة، رن هاتفي، وكان المتصل والدتي. كنت أتألم من عدم قدرتي على الرد على مكالمتها التي لم أرفضها أبداً من قبل ، ونظرت إلى الشاشة بعينيّ فارغتين، وفجأة، سُحب الهاتف بسرعة من يدي. عندما استدرت لأفهم ما يحدث، لم أكن أتوقع أن أتصادم بجسده. تملّكتني صرخة مذعورة من شفتي.


كان أمامي.


ها قد انتهى كل شيء.


لا، كل شيء يبدأ للتو.


عندما سقطت نظراتي في بئر عينيه، تناثرت رماد آمالي في السماء، وسقطت أحلامي للمستقبل مثل طائرة ورقية على الأرض. كان ممسكاً بهاتفي وكأنه سيحطمه بين أصابعه، وكان قد جن جنونه من الغضب. في تلك اللحظة، لم أستطع حتى أن أتنفس، وكأن السماء قد انهارت فوقي. دون تفكير، استدرت وبدأت أجري بسرعة. ومع ذلك، كان ما أفعله عبثاً، لن أتمكن من الهرب أبداً. حتى وهاتفي في يده، إلى أين يمكنني الهروب؟


"هانده!" صرخ باسمي بنبرة صوته التي تهز الأرض ليلاً. عندما سمعتُ اسمي من شفتيه، انطلقت صرخات الهزيمة في داخلي.


كنت أركض بجنون، وهو يجري خلفي بجنون أيضاً... لم أكثرت بالمطر الذي يعبث بشعري البني الطويل، وركضت عبر المياه المتجمعة في الطرق. لم يكن يهمني مدى بؤسي. لماذا لم يكن الحظ إلى جانبي؟ هل كان هو عقابي لأنني إنسانة خاطئة؟


عندما شعرت بأنفاسه على عنقي، أمسك بذراعي و أوقفني . لم أتمكن من الحفاظ على توازني بسبب توقفي المفاجئ، وسقطت على بركة المياه. كان شعري المبلل من المطر يغطي وجهي، وسروالي أيضاً قد غمره الماء في ثوانٍ. كنت أريد أن أصرخ بصوت يملأ الأفق، لكنني سكتت ورفعت رأسي، أرمق جلادي المملوء بالحنق بنظرات مليئة بالغل.


"لماذا؟" كان هذا السؤال الذي سألته مرات عديدة. لكن الإجابة كانت مجرد نظرة طويلة وخالية. لم يكن لديه إجابة يقدمها لي.


"حبا بالله،" قلت بشكل محتج. "ماذا تريد مني، ماذا؟"


ظل السؤال دون إجابة.


"قفي," قال بهدوء. كان ينظر بعينيه المرتجفتين إلى نهاية الشارع. لم أفهم، ماذا كان يريد من امرأة كان يتجنب حتى النظر إليها؟


"لن أنهض." كنت كطفل صغير، لكنني لم أعد أريد أن أشعر بالمواساة . "اذهب، أرجوك اذهب."


"هانده," قال مرة أخرى كتحذير. نظرت إليه بنظرة ضعيفة من خلال عيني. كان قميصه الأبيض قد ابتل بالمطر، مما جعله يلتصق بجسمه كجلد ثانٍ. "انهضي."


لم أنهض ولم أتحدث، ولم أسمع شيئاً. سحبت ركبتيّ قليلاً نحو بطني ولففت ذراعيّ حول نفسي، وصرفت نظري إلى الطريق الفارغ أمامي. كانت شفاهي ترتعش، لكن لم يكن السبب هو البرد، بل كنت أبكي بصمت. رغم أن الشارع الذي كنا فيه كان هادئاً، إلا أن هناك رجالاً كانوا يمرون من الطريق. كل ما كانوا يفعلونه هو النظر إليّ بتعجب. لم يكن يهمهم ما إذا كان قد حدث لي شيء سيء، أو ما إذا كنت مجبرة على أشياء من قبل رجل. في النهاية، متى سُمع صوت النساء؟


"ظننت أنني أستطيع فعلها"، قلت بينما كانت دموعي تتدفق بهدوء. "ظننت أنه يمكنني الهروب منك ومن تلك الليلة. أن أودع هذه المدينة دون أن أعود إليها مرة أخرى، وأن أبدأ حياة جميلة لنفسي. لكنني لم أستطع." بينما كنت أرجع رأسي وكأنني أشعر بالندم، رفعت كتفي بشكل يائس. "عمري ثلاث وعشرون عاماً ولكن ليس لدي أي أمل في المستقبل! لقد سرقتَ حياتي، وأطفأتَ أنواري..."


الموت أحياناً ليس مجرد توقف قلب. كان "بورا شاه سوفار" قاتل روحي وليس جسدي.


كان يستمع إلى كلماتي بصمت وكأنه ليس هو المسؤول عن حالتي هذه. رفعت رأسي ونظرت إلى وجهه مرة أخرى. وعندما أصبح نظره في نهاية الشارع مرة أخرى، لاحظ أنني أنظر إليه ومد يده اليسرى نحوي. كان الأمر كالكلمات النابية. هل كان يريد رفعي وكأنه لم يكن هو من أسقطني؟


عندما دفعتُ يده بقوة بدلاً من أن أمسك بها، بكيت بشدة أكبر. لأن هذه الهزيمة لم تكن قابلة للهضم. مد يده مرة أخرى بإصرار، لكنني لم أمسك بها. على أي حال، كان سيأخذني، ولم أكن أرغب في الإمساك بالمصيبة بيدي.


عندما صرخ قائلاً "توقفي!"، كان الغضب قد سيطر عليه بالكامل. وعندما انحنى ليأخذني من ذراعي، رفع جسدي الضعيف بسهولة للوقوف. الآن كان ممسكاً بمعصمي، وكنا نسير هو في المقدمة وأنا في الخلف. لم تكن تهمنا أجسادنا المبللة بالمطر.


أثناء عودتي من الطرق التي عبرتها راكضة كأنني مشلولة، كان طعم اليأس المر في فمي. كنا نعود إلى المكان الذي أمسك بي فيه. لم أعد أهرب أو أحاول النجاة. عندما اقتربنا من سيارته التي تركها على جانب الطريق، شعرت وكأنني على وشك الصعود إلى منصة الإعدام. عندما فتح الباب الأمامي الأيمن للسيارة، ركزت نظري على الأرضية الأسفلتية ولم أنظر إليه.


"ادخلي السيارة." كان صوته هادئاً ولكنه صارم بنفس القدر. لم أعترض. علمت ماذا سيحدث إذا قاومت، لذلك التزمت الصمت. صمتت ودخلت من الباب المفتوح لي، تحت أنظار عينيه الخضراء المخيفة. اللعبة التي لعبتها فقط للتخلص منه فقدت معناها. كانت محاولاتي بلا جدوى. كنت أحاول بلا طائل منذ شهور. لن أتمكن من الفرار.


بعدما أغلق الباب بقوة، فتح الباب الآخر ودخل بورا، ثم أغلق الباب بقوة مرة أخرى. عندما شعرت بالغثيان من رائحة العطر التي ملأت السيارة، شعرت بالحاجة لفتح النافذة. للحظة قصيرة، حاصر وجهي بنظراته، ثم التفت إلى الأمام وشغل المحرك. عندما انحرفت السيارة إلى اليسار وصرخت الإطارات، ضغط على دواسة الوقود إلى أقصاها. أولاً اندفعت إلى الأمام، ثم التصق ظهري بالمقعد.


كان يحب السرعة، ويتصرف كأن الطرق ملكه وحده، ويتجاهل القوانين بوضوح. كأن الحياة بين أطراف أصابعه. حتى قبل أسبوعين، تشاجر مع رجل ادعى أنه تجاوزه. أراد أن تدور الحياة فقط حوله. كان يعتقد أنه يمكنه الحصول على كل ما يريد. ربما لهذا السبب لم يكن يستطيع التخلي عني بعد كنت أول من أظهرت له أنه كان مخطئ.


الآن كنا صامتين كلانا. بينما كانت الكلمات المتفجرة على طرف لساني تتسبب في جروح، حولت نظراتي إلى النافذة. مع تسارع السيارة على الطريق، تسللت برودة حادة كالسكين إلى وجهي ثم إلى شعري المبتل من الركض. على الأرجح سأصاب بالمرض، لكن هذا لم يكن يهمني على الإطلاق.


بعد فترة، انطلقت الكلمات من شفتيه مدمرة السكون الكئيب بيننا. "ما فعلتهِ..." شعرت بنظراته تنتقل من الطريق وتتثبت علي. "ليس شيئًا يمكن التغاضي عنه، هانده." ارتطمت أذني بنبرة صوته التي تقطر بالغضب. كنت أعلم أن ما فعلته سيغضبه بشدة، لكنني كنت مستعدة لتحمل النتائج.


سحبت نظراتي من النافذة ونظرت إلى وجهه. كل مرة أنظر فيها إلى تلك العيون الخضراء الداكنة تزداد معاناتي. المشاعر الغامضة المختبئة وراء عينيه كانت تذكرني فقط بتلك الليلة. شعرت بقلق لا حدود له يغمرني، وروحي تغرق في قبضات الظلام القذرة.


لقد قررت هذه الليلة ألا أصمت. "ما فعلته لك بجانب ما فعلته لي، هو لا شيء." يبدو أن ردي لم يعجبه، فقال بصوت بارد: "ما فعلته لن يمر بلا عقاب. لقد جعلت اسمي مرتبطًا بسمعة سيئة كشخص عديم الشرف."


"هل هذا ما يهمك؟" سألتُ بسخرية. "أنا التي خُدعت. متى أصبحت آراء الناس تهمك؟"


"ما يهمني هو شجاعتك المجنونة..." الآن كان هو الذي يسخر ويتسلّى. "هل ظننتِ حقًا أنكِ ستتمكنين من الهروب؟" عندما التقت عينيه بعينيّ مجددًا، ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة. "لن تذهبي إلى أي مكان، ولن تصلي إلى أي شيء تنوينه. مثل هذه الألعاب ليست لمثلكِ من الفتيات، كل ما تفعلينه هو إثارة الفوضى ودفع حدود صبري."


"اصمت الآن،" قلت وكأنني أتقبل الواقع. الكلمات أيضًا تتعب في النهاية. جميع الكلمات التي كنت سأقولها لبورا قد جفت وذبلت في معجمي مع مرور الوقت.


قبل أن أحاول الهروب هذه الليلة، أردت أن أجد سببًا مقنعًا لرحيل مفاجئ وأن أجعل الجميع يعتقدون أن بورا قام بخيانتي، معتقدين أننا كنا نعيش علاقة مثالية بلا مشاكل. لم أستطع أن أختفي كما لو أن شيئًا لم يحدث. كان يجب أن يكون هناك سبب لترك بورا، ولذا لعبت دور المرأة التي تتركه لأنها خُدعت.


لم يكن من الصعب تنفيذ هذا الخطة. كان هناك فتاة جريئة في المدرسة التي درسنا فيها الثانوية. اسمها داملا. تحدثت هلال معها من أجلي وأقنعتها بتنفيذ هذا الخطة. في هذا المساء، جاءت فجأة إلى أحد الأماكن التي نرتادها دائمًا، وأعلنت أمام الجميع أنها كانت على علاقة ببورا، وأنني قد خُدعت. داملا أدت الدور بشكل مقنع. حتى بورا لم يستطع أن يستوعب ما حدث.


بورا كان محقًا في الواقع. لم يكن يكفي أنني لم أتمكن من الهروب، بل أيضاً فشلت في كل شيء. الآن، سأضطر لتحمل نظرات الشفقة والتعليقات اللاذعة من الجميع لفترة طويلة. في الحقيقة، لم يكن أي منهم يهمني. حتى لو رأيت بورا مع امرأة أخرى حقاً وعرفت أنه خانني ، لم يكن ذلك ليؤلمني. لم أكن أحبه، بل كنت أكرهه. الشيء الوحيد الذي كان يؤلمني هو هزيمتي أمامه.


"ألا تريدين معرفة عقوبتك؟" عندما سألني ذلك، شعرت بنار تشتعل في داخلي. من يدري، ما هي الخطة المدمرة التي كان يخطط لها في ذهنه المليء بالشياطين. بينما كنت أجلس بشكل غير مريح في المقعد، تجنبت نظراته قدر الإمكان. لم أسأله، ولم أكن سأسأله. كنا نقوم برحلة تحت أصوات المطر، لا أعرف إلى أين سنصل. لم أستطع أن أسأل. عندما نظرت إلى الطرق المظلمة، لم أتمكن من تحديد مكاننا بالضبط. عندما وقعت عيناي على بورا بالخطأ، تجنبت نظراتي كأنني رأيت شيئًا مرعبًا. ثم نظرت مرة أخرى إلى الخارج من النافذة. لقد أنهيت الليلة مرة أخرى بالهزيمة، وأهدرت يومًا آخر معه.


أظهر لي اليوم مرة أخرى أنه لا يوجد مكان يمكنني الهروب إليه منه. أينما ذهبت، ستكون أنفاسه خلفي، ولن أستطيع العيش في حياة بدونه... لا بد أن هناك طريقة للتخلص منك، قلت في نفسي. الوقوع في فخ، والعيش في شارع مغلق ليس لي. يجب أن أجد شيئًا لإنهائك.


وصلنا إلى بيت صغير في مكان بعيد ومعزول عن المدينة. قضاء الليل في هذا البيت المهجور جعلني أشعر بعدم الارتياح أكثر من كوني معه. بينما كنت أراقب المنازل المحيطة بنظرات خائفة، كان هو يحاول فتح الباب بأي مفتاح من مفاتيحه. كانت المسافة بين المنازل كبيرة جداً، وكانت الفراغات بينهما مملوءة بالشجيرات والأشجار. أنقرة كانت مدينة رمادية، لذلك هذه المنطقة التي تشبه الغابة مع عدد قليل من المنازل جعلتني أشعر وكأننا في مدينة مختلفة.


لم أكن أعرف أين نحن بالضبط، أو أين نحن في أنقرة. فقط تذكرت أنني رأيت لافتة مكتوب عليها "غولباشي" أثناء ركوبنا السيارة. في الواقع، لم نكن قد سافرنا مسافة طويلة، لذا لم يكن هذا المكان بعيدًا عن المدينة.


ومع ذلك، كان المكان مرعبًا.


"لا أريد البقاء هنا معك," قلت مع علمي بأن محاولتي لن تجدي نفعاً. "خذني إلى بيتي."


كان بورا غير مبالٍ، وكأنه لم يسمعني.


لم تكن هناك أضواء مشتعلة في أي من البيوت المحيطة. أعتقد أنه لم يكن هناك أحد غيرنا في الجوار. هذا جعلني أشعر بعدم الارتياح أكثر بينما فُتح الباب، تراجع بورا، وجال بنظراته الآمرة علي لأدخل. كان للبيت حديقة صغيرة ولكن واسعة. في وسط الحديقة كان هناك جناح كبير. وكان هناك جدار بارتفاع متر يفصل الحديقة عن الشارع ويمتد حول جوانب البيت. تبعت أصص الزهور المرصوصة درجات السلم النازلة من الباب إلى الحديقة.


الزهور لم تكن ذابلة، وكان واضحاً أن هناك من يعتني بهذا المكان بانتظام.


عندما نظرت بحذر إلى الداخل من الباب، سألت بهدوء، "ما هذا المكان؟" البقاء معه خلف باب مغلق جعلني أشعر بالاضطراب منذ الآن. "لماذا جئنا إلى هنا؟ بيت من هذا؟"


"إنه بيت شتوي يستخدمه والدي أحياناً"، قال بورا بنبرة ضجر. "لا تطرحي الكثير من الأسئلة." أمسك بمعصمي وسحبني إلى الداخل، ثم أغلق الباب بعد دخولنا. كان داخل البيت مظلماً بحيث لا يمكن رؤية شيء، ولكن لحسن الحظ، أشعل بورا ضوء هاتفه فأزال الظلام. أشعل ضوء الممر وأطفأ ضوء الهاتف. الممر كان فارغاً باستثناء خزانة كبيرة سوداء مدمجة في الجدار وسجادة داكنة بدون نقشات على الأرض. عندما نظرت إلى بورا متجاوزة تفحص الممر، أدركت أن الهاتف الذي يحمله هو هاتفي.


بمجرد أن رأيته يعبث بهاتفي، قفزت نحوه بسرعة محاولة أخذه منه.


"لا تعبث به، أعطني إياه!"


رفع الهاتف بيد واحدة إلى الأعلى، وقال بصوت خافت: "ششش، كوني هادئة." رفعت ذراعي ومددت يدي إلى الأعلى ولكن لم أتمكن من الوصول، فطوله كان يفوق طولي بكثير. كان رأسي بالكاد يصل إلى مستوى عنقه. شعرت بعدم الارتياح من قربه وتراجعت، خاصة وأن نظراته إلي كانت مرعبة لدرجة أنني لم أستطع الإصرار. عندما نزل بالهاتف ونظر إليه مجدداً بارتياح، قال: "تسع مكالمات فائتة، وعشر رسائل."


"ثلاث مكالمات فائتة من والدتك، والبقية من هلال."


حين صوبت نظراته المليئة بالاتهام نحوي محاولة تجاهل موضوع هلال، قلت بقلق: "أمي لابد أنها جن جنونها من القلق. أعطني هاتفي، سأتصل بها."


قال بورا وكأن قلقي غير مبرر: "لقد أرسلت لأمك رسالة وأخبرتها أنك ستقضين الليل معي." ثم عاد إلى موضوع هلال. "هل كنت ستفرين مع شريكتك في الجريمة؟"


للحظة لم أعرف ماذا أقول، شعرت بالخوف من أن يضع بورا عينه على هلال هذه المرة.


"لن تلتقي بها مرة أخرى"، عندما قال ذلك عقدت حاجبي بشدة. الشخص الذي تحدث عنه كان طفولتي، كان أقرب صديقاتي.


صرخت دون أن أستطيع التحكم في نفسي: "لا تكن وضيعًا، لا يمكنك التمادي إلى هذا الحد!"


"لماذا؟" سأل، ووضع هاتفي في الجيب الخلفي لسرواله ثم تقدم نحوي بخطوة. "ألم تكن تلك الفتاة هي من دفعتك للهاوية؟" نبرة صوته جعلتني أشعر بالقشعريرة. "أخبريني، هل نسيت تلك الليلة؟"


لم يكن من الممكن أن ينسى الإنسان شيئًا لا يغادر عقله أبداً. لم أنسَ فقط ، بل كنت أفكر في تلك الليلة كل يوم طوال الأشهر الأربعة الماضية، وكان يعرف جيدًا كيف كنت أتعذب من تأنيب الضمير. ورغم ذلك، كان يلعب معي كما تلعب القطة بالفأر.


"لم تكن هي من دفعتني للهاوية، كنت أنت!" قلت بصوت مرتجف.


لكن بورا أنكر ذلك. قال: "أنا أنقذتك."


"أنت لم تنقذني"، صرخت بجنون. "أنت خدعتني!"

قال بهدوء مستفز: "لقد ساعدتك، وأنتِ قبلتِ مساعدتي. كان بإمكانكِ رفضها."

"ليتني رفضتها!" صرخت بقوة حتى شعرت بألم في حلقي. تقدمت نحوه وألصقت يدي بصدره ودفعته بكل قوتي. "ليتني متُّ بدل أن أقع في فخك!"

بورا لم يكن من النوع الذي يهتز بدفعي، ولم تكن لدي القوة لذلك. لكنه تراجع بخطوات قليلة بعيدًا عني، وألقى علي نظرة غريبة لم أفهمها ثم مر بجانبي وخرج. عندما فتح الباب وخرج من المنزل، كان غضبي منه لا يزال طازج.

شعرت بركبتي ترتجفان، وأصبحت منهكة جدًا لدرجة أنني لم أعد أستطيع الوقوف. مشيت عبر الممر، وعندما نظرت إلى البابين المقابلين، دخلت إلى الصالة بدلاً من المطبخ. لم أشعل النور، كان الضوء المنعكس من الممر كافياً. الأثاث الكلاسيكي والقديم كان يعطي انطباعًا بأن هذا البيت موجود منذ سنوات، ومع ذلك، لاحظت أن كل شيء كان منظمًا ونظيفًا.

من لوحة المناظر الطبيعية على الحائط إلى الطاولة والمفرش بجانب النافذة، كان كل شيء مرتبًا. ولم يكن هناك حتى رائحة خانقة. هل كان بورا يستخدم هذا البيت بانتظام؟ أم والده؟ لم أكن أستطيع تصديق ذلك. مقارنةً بفخامة ورفاهية المنازل التي يعيشون فيها، كان هذا المكان عاديًا جدًا. في تلك اللحظة، لفت انتباهي الموقد الكبير في زاوية الصالة. شعرت بالبرد لأن ملابسي كانت مبللة تمامًا، خاصة سروالي. كنت بحاجة إلى إشعال الموقد للتدفئة.


بينما كنت أفكر في كيفية القيام بذلك، سمعت صوت انفجار جعل صرخة مليئة بالخوف تنفلت من شفتي. كان هذا الضجيج الذي جاء من مكان قريب يشبه صوت السلاح. بدأ قلبي ينبض وكأنه سيخرج من مكانه، وعندما سمعت نفس الصوت مرة أخرى، وضعت يدي على أذني.

ما الذي كان يحدث؟

غادرت الغرفة بسرعة واتجهت نحو الباب، وعندما سمعت نفس الصوت للمرة الثالثة، ارتجفت. كان الصوت قوياً لدرجة أنه شعرت وكأن الانفجار يحدث داخل جسدي. عندما فتحت الباب وخرجت، رأيت بورا خلف جدار الحديقة بقليل. كان يوجه سلاحه نحو الطريق، ويبدو مستعداً لإطلاق النار في أي لحظة. لفتت نظري ثلاث زجاجات زجاجية مصفوفة عند مدخل المنطقة الشجرية المقابلة للطريق. وقطع الزجاج المنتشرة بشكل عشوائي على الأرض...

كنت على علم بشغفه بالأسلحة وإطلاق النار. لكنني لم أكن أعلم أنه قد جن إلى حد إطلاق النار بشكل عشوائي في المساء.

"ماذا تفعل في هذه الساعة من الليل؟"

لم يبعد بورا عينيه عن الزجاجات الزجاجية التي كان يركز عليها، وعندما أطلق النار للمرة الرابعة، ركعت على الدرج أمام الباب وضعت يدي على أذني. كان الضجيج من هذه المسافة أشد بكثير. لم أكن أعرف كم مضى من الوقت حتى سمعت صوته وفتحت عيني.

"هل تخافين؟"

كان قد وجه فوهة السلاح نحوي. لوهلة، اعتقدت أن عيني تخدعني، لكنها لم تكن كذلك. كان هذا اللحظة حقيقية للغاية. وكان ينظر إليّ وكأنه سيطلق النار عليّ في أي لحظة. لم أكن أعلم إلى أين سينتهي الطريق الذي سرته معه منذ البداية. لم تكن أحاسيسي تهمس لي بأشياء جيدة. كنت خائفة، ولم أستطع إنكار ذلك.

"هل البقاء معي أسوأ من الموت يا هانده؟"

"لقد أجبتك على هذا السؤال مراراً."

بالرغم من ساقي المرتجفتين، وقفت على قدمي وسرت بخطوات متثاقلة، محركة نعلي حذائي على التراب، وتوجهت نحوه. مشاعر حزينة متعددة كانت تتنقل بين أعيننا المتقاطعة. غضب، كراهية، قسوة، وأكثر من ذلك... ربما كانت الكلمات الأخيرة في دفتر قدري تُكتب الآن. بدا وكأنني فقدت مفهوم الزمن. نفَس الموت البارد الذي ظننت أنه لن يصلني أبدًا كان الآن على عنقي.

"ما الأمر؟" سألت، محاولة تجنب النظر إلى السلاح الموجه نحوي. لم يكن يجب أن يشعر بخوفي. "هل كانت العقوبة التي تحدثت عنها هي قتلي؟"

عقلي كان يكتب سيناريوهات دموية بلا توقف. الهرب كان جريمة لا تُغتفر في كتابه وعقوبتها ستكون شديدة. ربما كان السبب الحقيقي لإحضاري إلى هذا البيت البعيد عن المدينة هو هذا. سيقتلني ويتخلص من جثتي بسهولة. لم أكن أعرف ما إذا كان شجاعًا بما يكفي لفعل ذلك، لكنني رأيت فيه هذا الاحتمال. روحه كانت تخدم الشيطان. وحياتي في نظره كانت بلا قيمة كقطع الزجاج المتناثرة.

"هل ترين الموت كعقوبة؟" سأل بصوت خالٍ من التعبير. "أم ترينه كخلاص؟"

"إذا كنت لن تتبعني، فإن الموت بالنسبة لي خلاص."

ابتسم بورا بخفة. "هل تريدين أن أنقذك؟"

"اقتلني"، قلت ببرود. "وإلا سأقتلك يومًا ما."

بينما قبل أربعة أشهر، كنت فتاة مرتبطة بالحياة بشدة، أحلامها معلقة بالطائرات الورقية في السماء، مغرمة بجميع ألوان قوس قزح، عاشقة للحياة، بريئة. كنت أخاف من الموت، كنت أخاف كثيرًا. كان لدي أيام جميلة كثيرة لأعيشها، خطط للسفر حول العالم. كنت سأحب الرجل الذي أحببته، وأنجب أطفالًا جميلين وأكون سعيدة جدًا. لم يحدث ذلك. بورا أخذ مني كل ما جعلني ما كنت عليه. بعد أن سرق كل أحلامي، الآن يريد فصل روحي عن جسدي.


"اقتُلْ!" صرخت بأعلى صوتي بينما ألقيت خصلة شعرٍ متساقطة على وجهي إلى الوراء. لأول مرة، كان التفكير في الموت، الذي كان يهز كياني باستمرار، يلامس روحي بلطف. "لقد جعلتني أعيش في الجحيم لشهور." كنت مستسلمة تمامًا بينما أنظر إلى وجهه الخالي من أي تعبير. "على الأقل عندما أموت، لن أتذكر حتى اسمك."

طلقة واحدة... كانت كافية لتمزيق روحي من جسدي. أُطلقت النار مرة أخرى، وملأ صوت الرصاصة الليل وصدح في أذني كصوت الهمس بالموت. بينما شعرت أنني أتأرجح في فراغٍ مظلم خلف عينيَّ المغلقتين، سمعت مرة أخرى الصوت المدوي.

"لم تموتي أيتها الحمقاء، افتحي عينيك."

ببطء، فتحت عيناي ورأيت وجهه. أدركت حينها أنه غيّر اتجاه المسدس الذي أطلقه قبل لحظات، مستهدفًا فراغًا بين الأشجار. عندما حولت نظراتي إلى زجاجتين لم تنكسر بعد، أدركت مدى خطورة ما فعله. لم يكن يهتم حتى إلى أين كان يطلق.

"في هذا الوقت من الليل، عدم وجود أحد حولنا لا يمنحك هذا الحق." رفع حاجبيه بسخرية عندما قلت ذلك. "ربما تكون قد أذيت حيوانًا."

"انظري..." خفض المسدس الذي كان ممسكًا به بإحكام نحو ساقه بابتسامة غير مبالية. "لا تفكري في الجميع باستثناء نفسك، يا ملاك الخير." كان صوته ساخرًا. "نهاية الطيبين دائمًا مؤلمة."

بدلًا من الرد، التزمت الصمت. لم أكن أستطيع التحدث بنفس لغته، وكان ذلك مرهقًا للغاية. مدركةً أن محاولاتي لم تكن تجدي نفعًا، استدرت ودخلت المنزل الذي كان بابه مفتوحًا. رغم أنني لم أعتقد بذلك، فكرت للحظة فعلًا أنه قد يطلق علي النار ويقتلني، وكانت ساقاي ترتجفان بشدة. عندما دخلت إلى الصالة وجلست على أحد الأرائك، لم أكن أبالي بملابسي لمبللة أو بشعوري بالبرد، وتكوّرت بهدوء. كنت متعبة ولكن لم يكن هناك أثر للنوم في عيني. سمعت صوت طلقات نارية أخرى، صوت تكسر زجاج الزجاجتين المتبقيتين. لم أشعر بالخوف هذه المرة. ثم حلّ صمت طويل ولم يُسمع صوت الطلقات مرة أخرى.


لم يمض وقت طويل حتى انفتح باب البيت ودخل بورا إلى الصالون. عندما رأيت الحطب وبعض الأغصان في حضنه، شعرت بالبرد يتسلل إلى أعماقي من جديد. كان من الواضح أنه أدرك أخيرًا أننا مبللين ونحتاج إلى الدفء. بعدما وضع الحطب بشكل عشوائي في المدفأة، أخرج ولاعته من جيبه وأشعل الأغصان الصغيرة أولاً، ثم أشعل سيجارته. بعد فترة، كبر اللهب في المدفأة وأضاء المكان، فرفع رأسه ونظر إليّ.

"اجلسي هنا ودفئي نفسك."

كنت أشعر بالبرد لدرجة أنني لم أستطع رفضه. عندما نهضت من الكرسي وتوجهت نحو المدفأة، كان يراقبني. كانت عيناه محملتان بنظرات غريبة لا أفهمها. عندما أخذ نفساً طويلاً من سيجارته، انعكست ألسنة اللهب البرتقالية على وجهه. الآن أصبحت عيناه أكثر اخضراراً، لكن لم يتغير شيء. كانت نظراته دائماً مخيفة.

لم أكن لأجلس مقابله بالطبع. بينما كنت أقف أمام المدفأة، قلت بصوت مرهق: "استدر". لم يكن هذا أمراً، بل كان طلباً. كنت مرهقة جداً لدرجة أنني لم أستطع مواجهته.

"لا أريد أن أرى وجهك."

رغم أنه نظر إليّ بحدة، إلا أنه استدار دون اعتراض، وعندما أدرت له ظهري وجلست، شعرت بالدفء الذي ينبعث من المدفأة يريح جسدي. كان أمامي حائط فارغ. فكرت في كيف بدأت الأمور، متى رأيته لأول مرة. كيف وصلنا إلى هذه الحالة، قسوة الليلة التي أسرتني إليه... تغيرت حياتي في ليلة واحدة.

بعد دقائق قضيناها جالسين ظهرًا لظهر دون أن نتكلم، كانت معظم ملابسي قد جفت. بعد فترة، نهض بورا وتمدّد بشكل عشوائي على الأريكة المقابلة. بسبب طوله، لم تتسع الأريكة لساقيه فاضطر إلى ثنيهما، وكانت عيناه مغمضتين.

كان نائماً. هل كان حقاً نائماً أم كان ينصب لي فخاً ليرى إن كنت سأحاول الهرب؟ لم أكن أعرف.

انتظرت حتى يغط في النوم بعمق. كنت لا أزال جالسة أمام المدفأة، أراقب النار التي تضعف ببطء بينما ألقي نظرات بين الحين والآخر على بورا. كان نائماً بهدوء تام لدرجة أنني لم أكن أسمع حتى تنفسه. شعره الأسود الكثيف كان مبللاً من المطر ومبعثراً على جبينه. كان يمتلك حواجب سوداء مقوسة، وأنفاً مستقيماً وحاداً، وشفتين سميكتين بلون يميل إلى الأرجواني. كانت بشرته حنطية، وفكاه بارزان، وله لحية سوداء خفيفة متناسقة مع وجهه.


هل كانت عيناه المغلقتان اللتان أضفتا على وجهه تعبيراً طفولياً وحزيناً؟ لا أعلم. لم يكن لدي شك في أن أي شخص لا يعرفه سيعبر عن أفكار إيجابية عنه. كانوا يفعلون ذلك بالفعل. لأن قبح قلبه لم ينعكس على وجهه، كان محظوظاً في هذا الأمر. لكن رغم ذلك، عندما أنظر إليه، لا أرى رجلاً وسيماً بل وحشاً. ومع ذلك، كانت كل النساء من حولي مفتونات ببورا.

باستثنائي.

لا شبابه، ولا جاذبيته، ولا ما يملكه... لم يكن شيء يخص بورا شاهسوفار يثير اهتمامي. روحه المتشائمة التي شهدتها في ليلة واحدة حولته إلى وحش في نظري. كان رغبتي الوحيدة هي التخلص منه لكن ذلك لم يكن ممكناً.

كان لديه ورقة رابحة كبيرة ستجلب نهايتي.

نهضت من مكاني بهدوء وعلى أطراف أصابعي ابتعدت عن الصالون. فتشت أدراج الممر بهدوء وأخذت مصباحاً صغيراً وجدته هناك. رغم أنني كنت على وشك الموت من التعب، كنت أعلم أنني لا أستطيع النوم في نفس المكان معه، لذلك فتحت باب المنزل بصمت وخرجت. لم أكن سأذهب إلى أي مكان، لم أستطع الذهاب على أي حال. كنت فقط أفضل أن أكون في الخارج بدلاً من أن أكون تحت نفس السقف معه.

دون أن أبتعد عن المنزل، عبرت إلى الجانب الآخر من جدار الحديقة، إلى الجهة المقابلة للطريق وبدأت بالمشي متأملة الأشجار. لأن عمود الإنارة لم يكن يكفي لإضاءة الليل، وجهت المصباح نحو المنطقة المشجرة. كانت أصوات الزيز ترن بين الشجيرات، والأغصان تتحرك برفق مع الرياح الخفيفة. كنت أحب الليالي لأنها كانت تمنحني الوحدة التي أرغب فيها. بينما كنت أنظر إلى الأشجار محاولًة تحديد نوعها، توقفت عند تفصيل غريب لفت نظري. تضيق نظري تلقائياً. في تلك اللحظة، شعرت أن قلبي سيتوقف.

لأن هناك شخصاً مستلقياً خلف جذع الشجرة الضخم الذي وقفت أمامه.

تماماً في المكان الذي أطلق فيه بورا النار في الفراغ بعد أن أبعد مسدسه عني.

شعرت كأن جبلاً من الجليد سقط في داخلي، جمد دمي في عروقي. في تلك اللحظة، دون أن أفكر في أي شيء، خطوت نحو المنطقة المشجرة وسرت بسرعة متجاهلة الشجيرات الطويلة. في نفس الوقت، فُتح باب المنزل وسمعت صوت بورا. كان جسدي كله يرتجف، ولم يبق لي قوة لأخطو خطوة، لكنني سرت بعناد. كان بورا يتجه نحو هذا الاتجاه. بدا أنه أدرك أيضاً أن هناك شيئاً ليس على ما يرام. عندما اقتربت بما يكفي لرؤية الجسد الممدد بلا حراك على الأرض، تصلب جسدي.

بينما كانت أجراس الخطر تهدد أنفاسنا، لم تنفتح شفتاي الملتصقتان، ولم تبتعد عيناي عن المشهد المؤلم أمامي.

قلبي الذي كان ينبض بسرعة كجناحي طائر، كاد يخرج من بين أضلعي.


والشيء الوحيد الذي كسر سكون الليل، كان صوتي المليء بالألم الذي هرب من شفتي.

"هناك شخص مستلقٍ بلا حراك على الأرض. إنها امرأة..."








أنت الان في اول موضوع
Reactions:

تعليقات